محاضرات في الاعجاز القراني

 


  •  

  • المحاضرة الاولى :  
    تعريف المعجزة والاعجاز لغة واصطلاحاً والفرق بينهما
  • تمهيد:

    الإعجاز في اللغة هو التحدي وإثبات العجز والضعف وعدم القدرة على فعل شيء خارق، وهو عكس القدرة والاستطاعة، ومنه اشتُقت كلمة المعجزة لعجز الناس عن الإتيان بمثلها. والإعجاز في الاصطلاح هو الشيء الخارق للعادة المقترن بالتحدي وغير القابل للنقد والنقض والمعارضة. فبالإعجاز تنكشف قدرات الإنسان الضعيفة والمحدودة، وبه تثبت عدم استطاعتهم على الإتيان بالمعجزة أو مثلِها مهما تطورت الوسائل ومهما تقدم الزمن. وبناءً على هذا التعريف يرى أهل العلم أن إعجاز القرآن يُفيد من جهة، صِدق القرآن الكريم وكمالَه في الشكل والمضمون، ومن جهة أخرى، عجز العرب والأجيال من بعدهم عن نقد القرآن الكريم و تفنيده والإتيان بمثله. ولتفصي القول عي الاعجاز لا بد من تنعريف هذا الاخير......

    1) تعريف المعجزة والاعجاز لغة واصطلاحا :

    المعجزة لغة : اسم فاعل من الإعجاز، والإعجاز مصدر للفعل أعجَز.

    وبعد النظر في بعض المعاجم اللغوية للوقوف على مدلول كلمتي الإعجاز والمعجزة وأصل اشتقاقهما خرجت بالخلاصة الآتية :

    المُعجز والمعجزة : ما أُعجِزَ به الخصم عند التحدي، والهاء للمبالغة كما في قولهم: علاّمة، ونسّابة، وجمعها معجزات، وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها .

    والعَجْـز: أصله التأخر عن الشيء وهو ضد القدرة، وصار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، يقال عَجَز فلان عن الأمر، وأعجزه الأمر إذا حاوله فلم يستطعه ولم تتسع له مقدرته وجهده.

    الإعجاز لغة : الفوت والسَبق، يقال أعجزني فلان، أي فاتني. وذكر الزبيدي عن الليث قال: أعجزني فلان: إذا عجزت عن طلبه وإدراكه، وقال الراغب الأصفهاني: أعجزت فلان وعجّزته وعاجزته: أي جعلته عاجزاً .

    فالإعجاز والمعجزة :هما إثبات العجز، وهو الضعف والقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة، ومنه المعجزة .

    المعجزة اصطلاحاً :  أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة يظهره الله على يد رسله .

    ومعناها : ان المعجزة أمر خارق للسنّة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ولا تخضع للأسباب والمسببات ولا يمكن لأحد أن يصل إليها عن طريق الجهد الشخصي والكسب الذاتي وإنما هي هبة من الله سبحانه وتعالى يختار نوعها وزمانها ليبرهن بها على صدق رسول الله الذي أكرمه بالرسالة. والسحر والأعمال الدقيقة التي يمارسها بعض أهل الرياضات البدنية أو الروحية لا يدخل تحت اسم الخارق لأن لكل من تلك الأمور أساليب ووسائل يمكن لأي إنسان أن يتعلمها ويتقنها ويمارسها، فإذا اتبع الأسباب والأساليب المؤدية إلى نتائجها أمكنه بواسطة الجهد الشخصي والمران والممارسة أن يتوصل إلى تلك النتائج . أما الأمور الخارقة فلا تدخل تحت طاقة البشر، ليست لها أسباب تؤدّي إليها.

    والإعجاز اصطلاحا: هو ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولتها، على شدة الإنسان واتصال عنايته في ذلك، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه .

    وإعجاز القرآن : هو إظهار صدق النبيّ (صلّى الله عليه واله وسلّم) في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة - وهي القرآن-  وعجز الأجيال بعدهم عن ذلك.

    وذلك أن القرآن قد سما في علوه إلى شأو بعيد بحيث تعجز القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، سواء كان هذا العلو في بلاغته، أو تشريعه، أو مغيباته .

    2) الفرق بين المعجزة والاعجاز :

    اولا ــــ المعجزة :

    1)حدث معين أو فعل معين أو قدرة معينة في زمن معين، ولذا يمكن القول بأنها ظاهرة زمانية.

    2) المعجزة حسية وترتبط بعناصر معروفة ومناسبة لعصر وقوعها، تمكن من استشعار مواطن الإعجاز فيها.

    3) خصت الأنبياء دون غيرهم.

    4) المعجزة تحدي للبشر بأن يأتوا بمثلها.

    5) أتت في القرآن بصيغة "آية".

    6) زمن المعجزات هو منتهي، لانتهاء عصر النبوة.

    وكل الأمور الخارقة التي حصلت للأنبياء والتي ذكرت في القرآن هي معجزات بكل المقاييس، وهي صريحة ولا شك فيها.وهي ضرورية ولا مناص منها لإثبات النبوة والدعم الإلهي للأنبياء.وهدفها الرئيسي إن لم يكن الوحيد هو إثبات النبوة وإلهية الرسالة ، وبالتالي إقناع الناس بإلهية ما يُبَلَّغون به من طرف الأنبياء والرسل.وهي أقوى وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وإقامة الحجة على من يشهدها فقط دون غيرهم.وإذن فهي ظاهرة زمانية محدودة.

    ثانيا ــــ الاعجاز:

    1) ظاهرة لا ترتبط لا بالزمان ولا بالمكان. ولذلك فالإعجازهو مستمرالحدوث ومنه ما هو أزلي بل ومتجدد عبر العصور.

    2) الإعجاز معنوي بطبعي.

    3) الإعجاز لا يجسده حدث عيني، وإنما هو تصور معين يقبله عقل معين نسبة لمعرفته.

    4) هناك إعجاز نسبي وإعجاز مطلق.

    5) الإعجاز المطلق : هو إلهي فالقرآن هو الوحيد الذي يتصف بهذا النوع من الإعجاز كونه كلام الله.

    والإعجاز النسبي : هو بشري بطبعه وهو ما تعرف به الخوارق الإنسانية، والخوارق هي قدرات بشرية جسمية أو عقلية ممنوحة لأناس معينين هدفها إظهار قدرة الله عز وجل في خلقه. والفرق هو أنها تتسم بالاستمرارية، فما يلبث أن تظهر عند أحد حتى تتوفر عند الآخر.

    ملحوظة : ما قلنا سابقا ليس للحصر ومن الممكن إضافة نقط أخرى.

    فالفروق بين المعجزة والإعجاز يمكن إيجازها في :

    1) استمرارية الإعجاز وتوقف المعجزة .

    2) حسية المعجزة ومعنوية الإعجاز .

    3) استحالة إنكار المعجزة وإمكانية ذلك بالنسبة للإعجاز.


    • المحاضرة الثانية: دليل الاعجاز والالفاظ المقاربة للاعجاز

      دليل الإعجاز في القرآن
    • لما دعا النبي الكريم قريشا إلى الإسلام كذبوه وطالبوه بمعجزة تثبت صدق دعوته ورسالته، فأجابهم أن القرآن الكريم هو معجزته، وتجلّى ذلك على عدة مستويات، حيث تدرج الله تعالى في تحدي الكفار بإعجاز القرآن بقوله: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}، ثم خفف هذا التحدي فقال سبحانه: {أَمْ يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سُوَرٍ مثله مُفْتَريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين}، ثم زاد من التخفيف فقال: {أَمْ يقولون افتراه قُلْ فأتوا بسورة مثله}، وتصاعد التحدي الإلهي في قوله تعالى: {قُلْ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا}، بعدها أكد الله تعالى على إعجاز القرآن واستحالة الإتيان بمثله فقال: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدَّتْ للكافرينَ}.

    • أنواع الإعجاز في القرآن
    • تختلف أنواع الإعجاز القرآني وتتنوع لتشمل عددا من المواضيع والمجالات، ومن ذلك نذكر الإعجاز البياني، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز الغيبي. فالإعجاز البياني هو قدرة القرآن الكريم على إيصال المعاني والرسائل المختلفة بوضوح وبلاغة يعجز البشر عن الإتيان بمثلها. والإعجاز العلمي هو إخبار القرآن الكريم بالحقائق والمعلومات الدقيقة المرتبطة بالظواهر الكونية المختلفة كأسرار الفضاء والبحار والجبال وغيرها والتي لم يكن ممكنا إدراكها في زمن نزول القرآن ولم يتم إثباتها إلا بالعلم الحديث. والإعجاز التشريعي هو سمو ودقة التشريعات والنُّظُم والمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وتميزها عن ما دونها من التشريعات والأحكام الوضعية بطريقة يستحيل على البشر الإتيان بها. أما الإعجاز الغيبي فيُقصد به إشارة القرآن الكريم لأمور غيبية لها علاقة بالماضي أو الحاضر أو المستقبل يستحيل على البشر التنبؤ بها.

    • الحكمة من الإعجاز في القرآن
    • يمكن تلخيص الحكمة من وجود الإعجاز في القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة فصلت: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}. فأنواع الإعجاز التي يتضمنها القرآن الكريم وما تحمله من فصاحة لغوية وحكم تشريعية وحقائق علمية وأخبار غيبية كلها إشارات ودلالات تؤكد لمن هو بحاجة لتأكيد أن القرآن الكريم حق وأنه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وبالإضافة إلى ذلك تتمثل حكمة الإعجاز القرآني في تثبيت وطمأنة قلوب المؤمنين بهذا الدين، وفي مساعدتهم على محاججة غيرهم وإقناعهم بصحة الإسلام وصِدق رسالته خاصة أولئك الذين يحتاجون إلى دلائل مادية وبراهين علمية. ومن حكمة الإعجاز أيضا أنه يفتح الباب أمام المسلمين للبحث والاستكشاف في مختلف الظواهر والعلوم ويمدهم بالإشارات اللازمة للانطلاق في هذا المجال.

    • الالفاظ المقاربة للمعجزة:
    • من الألفاظ القرآنية التي تفيد معنى الدليل وإقامة الحجة في الجدال والنقاش، هذه الألفاظ: ( البرهان ) و( البيان ) و( الحجة ) و( الدليل ) و( السلطان ) وقد اختلف تكرار هذه الألفاظ في القرآن، فجاء لفظ ( سلطان ) أكثرها تكرارًا، وكان غالبًا يأتي مقترنًا بوصف ( المبين ) وكان أقل هذه الألفاظ ورودًا لفظ ( الدليل ) الذي ورد مرة واحدة في قوله تعالى: { ثم جَعَلنا الشمس عليه دَليلاً } (الفرقان:45) ولنا وقفة مع هذه الألفاظ الخمسة:

      البرهان:

      قال تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } (البقرة:111) البُرهان: الحُجّة الفاصلة البيّنة، يقال: بَرهَن يُبَرهِنُ بَرهَنةً، إِذا جاء بحُجّةٍ, قاطعة لِدفع الخَصم، فهو مُبَرهِنٌº فيُبَرهن بمعنى يُبَيِّن، وجَمعُ البرهان:ِ براهينُ. وقد بَرهَنَ عليه: أَقام الحجّة. وفي الحديث: ( الصدقة برهان رواه مسلم أي: هي دَليلٌ على صحة إِيمان صاحبها لطيب نَفسه بإِخراجها، وذلك لعَلاقة ما بين النفس والمال .

      البيان:

      )البيان ): ما بُيِّنَ به الشيء من الدلالة وغيرهاº وبانَ الشيءُ بيانًا: اتَّضَح، فهو بيِّنٌ، والجمع أَبيناء، وكذلك أَبانَ الشيء: فهو مُبينٌº وقوله عز وجل: { وهو في الخصام غير مبين } (الزخرف:18) يريد النساء، أَي: الأُنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تُبينº وقوله عز وجل: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } (الطلاق:1) أَي ظاهرة مُتَبيِّنةº و( البيان ) ما يتعلق باللفظ، و( التبيان ) ما يتعلق بالمعنى .

      الحجة:

      الحُجَّةُ ): الدليل والبرهانº يُقال: حاجَجتُه فأَنا مُحاجُّ وحَجِيجٌ، فَعِيل بمعنى فاعل، وفي التنزيل، قوله تعالى في قصة إبراهيم مع قومه: { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } (الأنعام:80) وقال سبحانه في معرض الرد على الكافرين: { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم } (الشورى:16) أي: ما جاء به أهل الباطل والضلال من أدلة على مذهبهم، ليس له اعتبار، بل هي أدلة باطلة زائلة لا تقوم ولا تصمد أمام ما هو واقع وحق. وفي الحديث: ( فحج آدم موسى ) متفق عليه، أَي: غَلَبه بالحُجَّةº ومن أَمثال العرب: لَجَّ فَحَجّº معناه لَجَّ فَغَلَبَ مَن لاجَّه بِحُجَجِهº يقال: حاجَجتُه أُحاجٌّه حِجاجًا و مُحاجَّةً حتى حَجَجتُه أَي غَلَبتُه بالحُجَجِ التي أَدلَيتُ بهاº والمَحَجَّةُ: الطريق .

      الدليل:

      دَلَّه على الشيء يَدُلٌّه دَلاًّ ودَلالةً فاندَلَّ: سَدَّده إِليه، ودَلَلته فاندَلَّº والدَّليل: الدَّال، وما يُستدل به، وقد دَلَّه على الطريق يَدُلٌّه دَلالة ودِلالة ودُلولةº والدَّليل والدِّلِّيلي: الذي يَدُلٌّكº والاسم الدِّلالة والدَّلالة، بالكسر والفتحº وقوله تعالى: { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } (الفرقان:45) ومعنى كون الشمس دليلاً: أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتًا في مكان، زائلا عن آخر، ومتسعًا في موضع، ومتقلصًا في غيرهº فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على وفق ذلكº فجُعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره، كامتداد الطريق وما فيه من علامات وإرشادات، وجُعلت الشمس - من حيث كانت سببًا في ظهور مقادير الظل - كالهادي في الطريقº فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق، فكذلك الشمس - بتسببها في مقادير امتداد الظل - تعرِّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها .

      السلطان:

      قال الفراء : السلطان عند العرب الحجة، يذكر ويؤنث، فمن ذكَّر السلطان ذهب به إِلى معنى الرجل، ومن أَنثه ذهب به إِلى معنى الحجةº وقال الزجاج في قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين هود:96) أَي: وحُجَّة بَيِّنةº والسٌّلطان: الحاكم، إِنما سمي سُلطانًا لأَنه حجةُ اللَّهِ في أَرضه، أو هكذا ينبغي أن يكون وقوله تعالى: هلك عني سلطانيه } (الحاقة:29) معناه: ذهبت عني حجتُي .
      وبهذا يتبين أن هذه الالفاظ الخمسة تفيد معنى مشتركًا بينها، وهو إقامة الدليل والحجة، قصد إظهار الحق والحقيقةº وقد فرق بعض أهل العلم بين هذه الألفاظ، فقالوا: اسم ( الدليل ) يقع على كل ما يعرف به المدلول، واعتبروا أن ( الدليل ) ما كان مركبًا من الظنيات، و( البرهان ) ما كان مركبًا من القطعيات، و(الحجة ) مستعملة في جميع ما ذُكر، وكل ( سلطان ) في القرآن فهو ( حجة(...


      • المحاضرة الثالثة: معنى التحدي وآياته في القران الكريم

         
      • معنى التحدي لغةً واصطلاحًا:
        التحدي لغة:
        التحدي لغةً بمعنى المباراة والمبارزة.
        جاء في لسان العرب: " تحديت فلانًا إذا بارَيْتَه في فعل ونازَعْتَه الغلبة"، وهي الحُدَيَّا"[1].
        قال عمرو بن كلثوم في معلقته متحديًا الناس جميعًا بمجد قومه وشرفهم
        حُدَيّا الناسِ كلِّهِمِ جَميعًا= مُقارَعَةً بَنِيهمْ عن بَنيِنا[2]
        التحدي اصطلاحًا:
        التحدي اصطلاحًا يتصل اتصالاً وثيقًا بالمعنى اللغوي، فهو طلب الإتيان بالمثل على سبيل المنازعة والغلبة، ويتحدد المثل تبعا لما يتحدى به.
        فالتحدي بالقرآن طلب الإتيان بمثله[3].
        قال القاضي ابن الطيب:
        "وإنما احتيج في باب القرآن إلى التحدي؛ لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزًا، فإنما يعرف أولاً إعجازه بطريق؛ لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته، وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزًا، فإن كان لا يعرف بعضهم إعجازه، فيجب أن يعرف هذا؛ حتى يمكنه أن يستدل به، ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه والتقريع به والتمكين منه، صار حينئذ بمنزلة من رأى اليد البيضاء وانقلاب العصى ثعبانًا تتلقف ما يأفكون..."[4].
        المبحث الثاني: آيات التحدي في القرآن:
        ويمكن القول بأن هذا التحدي كان أول مواجهة لتحدي ثقافي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فزعم المشركون أن باستطاعتهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلقه فتحداهم الله أن يأتوا بمثله، وقرَّعهم بالعجز عن الإتيان - مع ما هم عليه من الأَنَفَة والحَميَّة - بما فيه من الآيات التي تبين أنه بلغتهم ومن جنس كلامهم، فطالبهم أن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة...، وتمر عليهم السنوات وتزداد الآيات وهم على عجزهم دائمون[5].
        فتحداهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن وذلك في قوله - عز وجل -: (( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ - فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ))[6].
        فلما لم يستطيعوا تحداهم بعشر سور من مثله وذلك في قوله - عز وجل -: (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))[7].
        ثم تنازل لهم إلى أن تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله وذلك في قوله - عز وجل -: (( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ))[8].
        كما كرر هذا التحدي في قوله - عز وجل -: (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ))[9].
        فسلك الله معهم أسلوب التدرج في التحدي، فثبت عجزهم عن ذلك، بل تحدى الله - عز وجل - الإنس والجن مجتمعين عن أن يأتوا بمثل القرآن، وهذا في قوله - عز وجل -: (( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) ))[10].
        وهكذا يقرر القرآن الكريم عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن مهما بلغوا من العلم والمعرفة إلى يوم القيامة.
        "وهذا التحدي لا علاقة له بترتيب الآيات من ناحية الأثر في قوة التحدي؛ لأن القرآن كله قليله وكثيرة على حد سواء في الإعجاز، فليس الآيتان بسورة أسهل من الإتيان بالقرآن كله، فالتحدي في القرآن بالكيف لا بالكم، وبالنوع لا بالمقدار، فلا يهم إذا أن يكون التحدي بسورة جاء قبل التحدي بعشر سور أو قبل التحدي بالقرآن كله.
        واستحالة المجيء بمثل سورة من القرآن كاستحالة المجزئ بعشر سور، واستحالة المجزئ بمثل القرآن كله على حد سواء، فكل ذلك متعذر، ولذا فلا أثر للاختلاف في ترتيب آيات التحدي ما دام لا يترتب عليه أثر في قوه التحدي، والعجز كان عن الإتيان بجنس القرآن لا المقدار"[11].
        يقول الشيخ مناع القطان: "وعجز العرب عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها، وعنفوان قوتها والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره، وهذا ما أجمله القرآن، أو أشار إليه، فصار القرآن بهذا معجزًا للإنسانية كافة"[12].
        يقول "الماوردي" رحمه الله في عجز الأمم عن معارضة القرآن: "وقد تحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم تخرجهم أَنَفَة التحدي وصبروا على نغص العجز مع شدة حَميتهم وقوة أنفتهم، وقد سفه أحلامهم وسبَّ أصنامهم، ولو وجدوا إلى المعارضة سبيلًا وكان في مقدورهم داخلًا، وقد جعله حجة لهم في رد رسالته - لعارضوه ولما عدلوا عنـه إلى بذل نفوسهـم في قتاله وسفك دمائهم في محاربته[13].
        [1]- ابن منظور-لسان العرب، مادة حدا- (168) .
        [2] شرح المعلقات السبع- الزوزني- ص:177- نقلاً عن: التحدي بالقرآن الكريم-د.محسن الخالدي-ص:3
        [3]   - المرجع السابق-ص:3
         [4]   إعجاز القرآن-الباقلاني-ص:190.
        [5] التحدي بالقرآن الكريم-د.محسن الخالدي-ص:15 (بتصرف)
        [6] سورة الطور : آية :33- 34
        [7]سورة هود : 13 - 14
        [8] سورة يونس :: 38
        [9] سورة البقرة  : 23 - 24
        [10] سورة الإسراء : 88
        [11] دراسات في علوم القران-د.فهد الرومي-ص:271 (بتصرف).
        [12] مباحث في علوم القرآن-مناع القطان- ص 274 .
        [13] أعلام النبوة –الماوردي-ص 71 .

      إرسال تعليق

      1تعليقات
      1. ما شاء لله عليك شيخ رياض، فتح الله عليك وزادك علما وحرصا.

        ردحذف
      إرسال تعليق
      12/sidebar/التفسير